فصل: النوع الثامن: في استعمال العام في النفي والخاص في الإثبات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)



.النوع الثامن: في استعمال العام في النفي والخاص في الإثبات:

اعلم أنه إذا كان الشيئان أحدهما خاصا والآخر عاما فإن استعمال العام في النفي أبلغ من استعماله في حالة الإثبات وكذلك استعمال الخاص في حالة الإثبات أبلغ من استعماله في حالة النفي.
ومثال ذلك الإنسانية والحيوانية فإن إثبات الإنسانية يوجب إثبات الحيوانية، ولا يوجب نفيها نفي الحيوانية، وكذلك نفي الحيوانية يوجب نفي الإنسانية ولا يوجب إثباتها إثبات الإنسانية ومما ينتظم بذلك الأسماء المفردة الواقعة على الجنس التي يكون بينها وبين واحدها تاء التأنيث، فإنه متى أريد النفي كان استعمال واحدها أبلغ، ومتى أريد الإثبات كان استعمالها أبلغ وكذلك يتصل بهذا النوع الصفتان الواردتان على شيء واحد، فإنه إذا لزم من وجود إحداهما وجود الأخرى اكتفي بها في الذكر، ولم يحتج إلى ذكر الأخرى، لأنه يجيء ضمنا وتبعا، أو يبدأ بها في الذكر أولاً ثم تجيء الأخرى بعدها وأما الصفات المتعددة فإنه ينبغي أن يبدأ في الذكر بالأدنى مرتبة ثم بعدها بما هو أعلى منها إلى أن ينتهي إلى آخرها، هذا في مقام المدح فإن كان في مقام الذك عكست القضية.
فالأول- وهو الخاص والعام- نحو قوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم} ولم يقل ذهب بضوئهم موازنا لقوله: {فلما أضاءت} لأن ذكر النور في حالة النفي أبلغ من حيث إن الضوء فيه الدلالة على النور وزيادة، فلو قال ذهب الله بضوئهم لكان المعنى يعطي ذهاب تلك الزيادة وبقاء ما يسمى نورا لأن الإضاءة هي فرط الإنارة، قال الله تعالى: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا} فكل ضوء نور، وليس كل نور ضوءا، فالغرض من قوله تعالى: {ذهب الله بنورهم} إنما هو إزالة النور عنهم أصلا، فهو إذا أزاله فقد أوال الضوء، وكذلك أيضاً قوله تعالى: {ذهب الله بنورهم} ولم يقل أذهب نورهم، لأن كل من ذهب بشيء فقد أذهبه، وليس كل من أذهب شيئا فقد ذهب به، لأن الذهاب بالشيء هو استصحاب له ومضي به، وفي ذلك نوع احتجار بالمذهوب به وإمساك له عن الرجوع إلى حالته والعود إلى مكانه، وليس كذلك الإذهاب للشيء لزوال معنى الاحتجار عنه.
ومما يحمل على ذلك الأوصاف الخاصة إذا وقعت على شيئين، وكان يلزم من وصف أحدهما الآخر ولا يلزم عكس ذلك، ومثاله قوله تعالى: {سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض} فإنه إنما خص العرض بالذكر دون الطول للمعنى الذي أشرنا إليه والمراد بذلك أنه إذا كان هذا عرضها فكيف يكون طولها؟ وهذا في حالة الإثبات، ولو أريد حالة النفي كان له أسلوب غير ما ذكرناه وهو أنه كان يخص به الطول دون العرض وأما الأسماء المفردة الواقعة على الجنس فنحو قوله تعالى في قصة نوح عليه السلام: {قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين} فإنه إنما قال: {ليس بي ضلالة} ولم يقل ليس بي ضلال كما قالوا لأن نفي الضلالة أبلغ من نفي الضلال عنه، كما لو قيل: ألك تمر؟ فقلت في الجواب ما لي تمرة، وذلك أنفى للتمر، ولو قلت ما لي تمرة لما كان يؤدي من المعنى ما أداه القول الأول: وفي هذا الموضع دقة تحتاج إلى فضل تمام، فينبغي لصاحب هذه الصناعة مراعاته والعناية به.
فإن قيل: لا فرق بين الضلالة والضلال، وكلاهما مصدر قولنا ضل يضل ضلالا وضل يضل ضلالة كما يقال: لذ يلذ لذاذا ولذاذة.
فالجواب عن ذلك أن الضلالة تكون مصدرا كما قلت، وتكون عبارة عن المرة الواحدة، تقول ضل يضل ضلالة، أي مرة واحدة كما تقول: ضرب يضرب ضربة، وقام وأكل يأكل أكلة، والمراد بالضلالة في هذه الآية إنما هو عبارة عن المرة الواحدة من الضلال، فقد نفي ما فوقها من المرتين والمرار الكثيرة.
وأما الصفتان الواردتان على شيء واحد فكقول الأشتر النخعي:
خلفت وفري وانحرفت عن العلى ** ولقيت أضيافي بوجه عبوس

إن لم أشن على ابن حرب غارة ** لم تخل يوما من نهاب نفوس

خيلا كأمثال السعالي شزبا ** تعدو ببيض في الكريهة شوش

حمي الحديد عليهمو فكأنه ** لمعان برق أو شعاع شموس

ألا ترى أنه رقى في التشبيه من الأدنى إلى الأعلى فقال: لمعان برق أو شعاع شموس لأن لمعان البرق دون شعاع الشموس، ومما ورد من ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى: {ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} فإن وجود المؤاخذة على الصغيرة يلزم منه وجود المؤاخذة على الكبيرة، وعلى القياس المشار إليه أولاً فينبغي أن يكون لا يغادر كبيرة ولا صغيرة لأنه إذا لم يغادر صغيرة فمن الأول ألا يغادر كبيرة، وأما إذا لم يغادر كبيرة فإنه يجوز أن يغادر صغيرة، لأنه إذا لم يعف عن الصغيرة فيقضي القياس أنه لا يعفو عن الكبيرة، وإذا لم يعف عن الكبيرة فيجوز أن يعفو عن الصغيرة، غير أن القرآن الكريم أحق أن يتبع وأجدر بأن يقاس عليه، لا على غيره والذي ورد فيه من هذه الآية ناقض لما تقدم ذكره.
وكذلك ورد قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما} لأن التأفيف أدنى درجة، وقد تقدم قولي في أول هذا النوع أنه إذا جاءت صفتان يلزم من وجود إحداهما وجود الأخرى أن يكتفي بذكرها دون الأخرى، لأن الأخرى تجيء ضمنا وتبعا، وأن يبدأ بها في الذكر ثم تجيء الأخرى بعدها وعلى هذا فيقال أولاً فلا تنهرهما ولا تقل لهما أف، لكن إذا لم يقل لهما أف امتنع أن ينهرهما وقد كان هذا هو المذهب عندي حتى وجدت كتاب الله تعالى قد ورد بخلافه وحينئذ عدت عما كنت أراه وأقول به.
وأما الصفات المتعددة الواردة على شيء واحد فكقول أبي عبادة البحتري في وصف نحول الركاب:
يترقرقن كالسراب قد خضن ** غمارا من السراب الجاري

كالقسي المعطفات بل الأسهم ** مبرية بل الأوتار

ألا ترى أنه رقى في تشبيه نحولها من الأدنى إلى الأعلى، فشبهها أولاً بالقسي، ثم بالأسهم المبرية، وتلك أبلغ في النحول، ثم بالأوتار، وهي أبلغ في النحول من الأسهم، وكذلك ينبغي أن يكون الاستعمال في مثل هذا الباب.
وقد أغفل كثير من الشعراء ذلك، فمن جملتهم أبو الطيب المتنبي في قوله:
يا بدر يا بحر يا غمامة يا ** ليت الشرى يا حمام يا رجل

وينبغي أن يبدأ فيه بالأدنى فالأدنى فإنه إذا فعل ذلك كان كالمرتفع من محل إلى محل أعلى منه، وإذا خالفه كان كالمنخفض من محل إلى محل أدنى منه، فأما قوله يا بدر فإنه اسم ممدوح، والابتداء به أولى، ثم بعده فيجب أن يقول: يا رجل، يا ليث، يا غمامة، يا بحر، يا حمام، لأن الليث أعظم من الرجل، والبحر أعظم من الغمامة، والحمام أعظم من البحر، وهذا مقام مدح فيجب أن يرقى فيه من منزلة إلى منزلة حتى ينتهي إلى المنزلة العليا آخرا، ولو كان مقام ذم لعكس القضية.
وعلى مثله ورد قول أبي تمام يفتخر:
سما بن أوس في الفخار وحاتم ** وزيد القنا والأثرمان ورافع

نجوم طوالع جبال فوارع ** غيوث هوامع سيول دوافع

فإن السيول دون الغيوث، والجبال دون النجوم، ولو قدم ما أخر لما اختل النظم بأن قال:
سيول دوافع غيوث هوامع ** جبال فوارع نجوم طوالع

وهذا عندي أشد ملامة من المتنبي، لأن المتنبي لا يمكنه تقديم ألفاظ بيته وتأخيرها، وأبو تمام متمكن من ذلك، وما أعلم كيف ذهب عليه هذا الموضع مع معرفته بالمعاني.

.النوع التاسع: في التقديم والتأخير:

وهذا باب طويل العرض يشتمل على أسرار دقيقة، منها ما استخرجته أنا، ومنها ما وجدته في أقوال علماء البيان وسأورد ذلك مبينا.
وهو ضربان: الأول يختص بدلالة الألفاظ على المعاني، ولو أخر المقدم أو قدم المؤخر لتغير المعنى والثاني يختص بدرجة التقدم في الذكر لاختصاصه بما يوجب له ذلك، ولو أخر لما تغير المعنى.
فأما الضرب الأول فإنه ينقسم إلى قسمين: أحدهما يكون التقديم فيه هو الأبلغ، والآخر يكون التأخير فيه هو الأبلغ.
فأما القسم الذي يكون التقديم فيه هو الأبلغ فكتقديم المفعول على الفعل، وتقديم الخبر على المبتدأ، وتقديم الظرف أو الحال أو الاستثناء على العامل.
فمن ذلك تقديم المفعول على الفعل، كقولك: زيدا ضربت، وضربت زيدا، فإن في قولك زيدا ضربت تخصيصا به بالضرب دون غيره، وذلك خلاف قولك ضرب زيدا لأنك إذا قدمت الفعل كنت بالخيار في إيقاعه على أي مفعول شئت، بأن تقول خالدا، أو بكرا، أو غيرهما وإذا أخرته لزم الاختصاص للمفعول.
وكذلك تقديم خبر المبتدأ عليه، كقولك زيد قائم، وقائم زيد، فقولك قائم زيد قد أثبت له القيام دون غيره وقولك زيد قائم أنت بالخيار في إثبات القيام له ونفيه عنه، بأن تقول: ضارب، أو جالس، أو غير ذلك وهكذا يجري الحكم في تقديم الظرف، كقولك إن إلي مصير هذا الأمر، وقولك: إن مصير هذا الأمر إلي، فإن تقديم الظرف دل على أن مصير الأمر ليس إلا إليك بخلاف قولك: إن مصير هذا الأمر إلي، إذ يحتمل إيقاع الكلام بعد الظرف على غيرك، فيقال: إلى زيد، أو عمرو، أو غيرهما.
وكذلك يجري الأمر في الحال والاستثناء.
وقال علماء البيان- ومنهم الزمخشري رحمه الله-: إن تقديم هذه الصورة المذكورة إنما هو للاختصاص، وليس كذلك، والذي عندي فيه أن يستعمل على وجهين: أحدهما الاختصاص، والآخر مراعاة نظم الكلام، وذاك أن يكون نظمه لا يحسن إلا بالتقديم، وإذا أخر المقدم ذهب ذلك الحسن، وهذا الوجه أبلغ وأوكد من الاختصاص.
فأما الأول الذي هو الاختصاص فنحو قوله تعالى: {أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين} فإنه إنما قيل: {بل الله فاعبد} ولم يقل: {بل اعبد الله} لأنه إذا تقدم وجب اختصاص العبادة به دون غيره، ولو قال: {بل اعبد} لجاز إيقاع الفعل على أي مفعول شاء وأما الوجه الثاني الذي يختص بنظم الكلام فنحو قوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} وقد ذكر الزمخشري في تفسيره أن التقديم في هذا الموضع قصد به الاختصاص، وليس كذلك، فإنه لم يقدم المفعول فيه على الفعل للاختصاص وإنما قدم لمكان نظم الكلام، لأنه لو قال نعبدك ونستعينك لم يكن له من الحسن ما لقوله: {إياك نعبد وإياك نستعين} ألا ترى أنه تقدم قوله تعالى: {الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين} فجاء بعد ذلك قوله: {إياك نعبد وإياك نستعين} وذاك لمراعاة حسن النظم السجعي الذي هو على حرف النون، ولو قال نعبدك ونستعينك لذهبت تلك الطلاوة وزال ذلك الحسن، وهذا غير خاف على أحد من الناس فضلا على أرباب علم البيان.
وعلى نحو منه ورد قوله تعالى: {فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى} وتقدير الكلام فأوجس موسى في نفسه خيفة، وإنما قدم المفعول على الفاعل وفصل بين الفعل والفاعل والمفعول وبحرف الجر قصداً لتحسين النظم، وعلى هذا فليس كل تقديم لما مكانه التأخير من باب الاختصاص فبطل إذا ما ذهب إليه الزمخشري وغيره.
ومما ورد من هذا الباب قوله تعالى: {خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه} فإن تقديم الجحيم على التصلية وإن كان فيه تقديم المفعول على الفعل إلا أنه لم يكن هاهنا للاختصاص، وإنما هو للفضيلة السجعية، ولا مراء في أن هذا النظم على هذه الصورة أحسن من أن لو قيل خذوه فغلوه ثم صلوه الجحيم.
فإن قيل إنما قدمت الجحيم للاختصاص لأنها نار عظيمة، ولو اخرت لجاز وقوع الفعل على غيرها، كما يقال: ضربت زيدا، وزيدا ضربت، وقد تقدم الكلام على ذلك.
فالجواب عن ذلك أن الدرك الأسفل أعظم من الجحيم، فكان ينبغي أن يخص بالذكر دون الجحيم، على ما ذهب إليه لأنه أعظم، وهذا لا يذهب إليه إلا من هو بنجوة عن رموز الفصاحة والبلاغة، ولفظة الجحيم هاهنا في هذه الآية أولى بالاستعمال من غيرها، لأنها جاءت ملائمة لنظم الكلام، ألا ترى أن من أسماء النار السعير ولظى وجهنم، ولو وضع بعض هذه الأسماء مكان الجحيم إنما هو النار: أي صلوه بالنار، وهكذا يقال في: {ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه} فإنه لم يقدم السلسلة على السلك للاختصاص، وإنما قدم لمكان نظم الكلام، ولا شك أن هذا النظم أحسن من أن لو قيل ثم اسلكوه في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا، والكلام على هذا كالكلام على الذي قبله، وله في القرآن نظائر كثيرة، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم} فقوله: {والقمر قدرناه منازل} ليس تقديم المفعول فيه على الفعل من باب الاختصاص، وإنما هو من باب مراعاة نظم الكلام، فإنه قال: {الليل نسلخ منه النهار} ثم قال: {والشمس تجري} فاقتضى حسن النظم أن يقول: {والقمر قدرناه} ليكون الجميع على نسق واحد في النظم، ولو قال وقدرنا القمر منازل لما كان بتلك الصورة في الحسن، وعليه ورد قوله تعالى: {فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر} وإنما قدم المفعول لمكان حسن النظم السجعي.
وأما تقديم خبر المبتدأ عليه فقد تقدمت صورته، كقولك: زيد قائم، وقائم زيد، فمما ورد منه في القرآن قوله تعالى: {وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله} فإنه إنما قال ذلك ولم يقل وظنوا أن حصونهم تمنعمهم أو مانعتهم لأن في تقديم الخبر الذي هو مانعتهم على المبتدأ الذي هو حصونهم دليلا على فرط اعتقادهم في حصانتها، وزيادة وثوقهم بمنعها إياهم، وفي تصويب ضميرهم اسما لأن وإسناد الجملة إليه دليل على تقريرهم في أنفسهم أنهم في عزة وامتناع لا يبالي معها بقصد قاصد ولا تعرض متعرض، وليس شيء من ذلك في قولك: وظنوا أن حصونهم مانعتهم من الله.
ومن تقديم خبر المبتدأ قوله تعالى: {قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم} فإنه إنما قدم خبر المبتدأ عليه في قوله: {أراغب أنت} ولم يقل أأنت راغب لأنه كان أهم عندهم وهو به شديد العناية وفي ذلك ضرب من التعجب والإنكار لرغبة إبراهيم عن آلهته، وأن آلهته لا ينبغي أن يرغب عنها، وهذا بخلاف ما لو قال أأنت راغب عن آلهتي.
ومن غامض هذا الموضع قوله تعالى: {واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا} فإنه إنما قال ذلك ولم يقل فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة لأمرين: أحدهما تخصيص الأبصار بالشخوص دون غيرها، أما الأول فلو قال فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة لجاز أن يضع موضع شاخصة غيره، فيقول: حائرة، أو مطموسة، أو غير ذلك، فلما قدم الضمير اختص الشخوص بالأبصار دون غيرها، وأما الثاني فإنه لما أراد أن الشخوص بهم دون غيرهم دل عليه بتقديم الضمير أولاً ثم بصاحبه ثانيا، كأنه قال: فإذا هم شاخصون دون غيرهم، ولولا أنه أراد هذين الأمرين المشار إليهما لقال فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة، لأنه أخصر بحذف الضمير من الكلام.
ومن هذا النوع قول النبي وقد سئل عن ماء البحر، فقال: {هو الطهور ماؤه الحل ميتته} وتقدير الكلام هو الذي ماؤه طهور وميتته حل، لأن الألف واللام هاهنا بمعنى الذي.
وأما تقديم الظرف، فإنه إذا كان الكلام مقصودا به الإثبات فإن تقديمه أولى من تأخيره، وفائدته إسناد الكلام الواقع بعده إلى صاحب الظرف دون غيره، فإذا أريد بالكلام النفي فيحسن فيه تقديم الظرف وتأخيره، وكلا هذين الأمرين له موضع يختص به.
فأما تقديمه في النفي فإنه يقصد به تفضيل المنفي عنه على غيره أما تأخيره فإنه يقصد به النفي أصلا من غير تفضيل.
فأما الأول- وهو تقديم الظرف في الإثبات- فكقولك في الصورة المقدمة: إن إلي مصير هذا الأمر، ولو أخرت الظرف فقلت: إن مصير هذا الأمر إلي، لم يعط من المعنى ما أعطاه الأول، وذلك أن الأول دل على أن مصير الأمر ليس إلا إليك، وذلك بخلاف الثاني، إذ يحتمل أن توقع الكلام بعد الظرف على غيرك، فيقال: إلى زيد، أو عمرو، أو غيرهما، وعلى نحو منه جاء قوله تعالى: {إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم} وكذلك جاء قوله تعالى: {يسبح لله ما في السموات وما في الأرض له الملك وله الحمد} فإنه إنما قدم الظرفين هاهنا في قوله: {له الملك وله الحمد} ليدل بتقديمهما على اختصاص الملك والحمد بالله لا بغيره.
وقد استعمل تقديم الظرف في القرآن كثيراً كقوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} أي تنظر إلى ربها دون غيره، فتقديم الظرف هاهنا ليس للاختصاص، وإنما هو كالذي أشرت إليه في تقديم المفعول، وأنه لم يقدم للاختصاص، وإنما قدم من أجل نظم الكلام، لأن قوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} أحسن من أن لو قيل: وجوه يومئذ ناضرة ناظرة إلى ربها، والفرق بين النظمين ظاهر، وكذلك قوله تعالى: {والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق} فإن هذا روعي فيه حسن النظم لا الاختصاص، في تقديم الظرف وفي القرآن مواضع كثيرة من هذا القبيل يقيسها غير العارف بأسرار الفصاحة على مواضع أخرى وردت للاختصاص وليست كذلك، فمنها قوله تعالى:: {إلى ربك يومئذ المستقر} وقوله تعالى: {ألا إلى الله تصير الأمور} و{له الحكم وإليه ترجعون} و{عليه توكلت وإليه أنيب} فإن هذه جميعها لم تقدم الظروف فيها للاختصاص وإنما قدمت لمراعاة الحسن في نظم الكلام فاعرف ذلك.
وأما الثاني: وهو تأخير الظرف وتقديمه في النفي- فنحو قوله تعالى: {آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه} وقوله تعالى: {ولا فيها غول ولا هم عنها ينزفون} فإنه إنما أخر الظرف في الأول لأن القصد في إيلاء حرف النفي الريب نفي الريب عنه، وإثبات أنه حق وصدق، لا باطل وكذب، كما كان المشركون يدعونه، ولو أولاه الظرف لقصد أن كتابا آخر فيه الريب لا فيه، كما قصد في قوله: {لا فيها غول} فتأخير الظرف يقتضي النفي أصلا من غير تفصيل وتقديمه يقتضي تفضيل المنفي عنه، وهو خمر الجنة، على غيرها من خمور الدنيا، أي ليس فيها ما في غيرها من الغول وهذا مثل قولنا: لا عيب في الدار، وقولنا لا فيها عيب، فالأول نفي للعيب عن الدار فقط، والثاني تفضيل لها على غيرها: أي ليس فيها ما في غيرها من العيب، فاعرف ذلك فإنه من دقائق هذا الباب.
وأما تقديم الحال فكقولك: جاء راكبا زيد، وهذا بخلاف قولك: جاء زيد راكبا، إذ يحتمل أن يكون ضاحكا أو ماشيا أو غير ذلك.
وأما الاستثناء فجار هذا المجرى، نحو قولك: ما قام إلا زيدا أحد، أو ما قام أحد إلا زيدا، والكلام على ذلك كالكلام على ما سبق.

.المعاظلة المعنوية:

وأما القسم الثاني فهو أن يقدم ما الأولى به التأخير لأن المعنى يختل بذلك ويضطرب، وهذا هو المعاظلة المعنوية، وقد قدمنا القول في المقالة الأولى المختصة بالصناعة اللفظية بأن المعاظلة تنقسم قسمين: أحدهما لفظي والآخر معنوي، أما الفظي فذكرناه في بابه، وأما المعنوي فهذا بابه وموضعه، وهو كتقديم الصفة أو ما يتعلق بها على الموصوف، وتقديم الصلة على الموصول، وغير ذلك مما يرد بيانه.
فمن هذا القسم قول بعضهم:
فقد والشك بين لي عناء ** بوشك فراقهم صرد يصيح

فإنه قدم قوله بوشك فراقهم وهو معمول يصيح ويصيح صفة لصرد على صرد، وذلك قبيح، ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال: هذا من موضع كذا رجل ورد اليوم، وإنما يجوز وقوع المعمول بحيث يجوز وقوع العامل، فكما لا يجوز تقديم الصفة على موصوفها فكذلك لا يجوز تقديم ما اتصل بها على موصوفها.
ومن هذا النحول قول آخر:
فأصبحت بعد خط بهجتها ** كأن قفراً رسومها قلماً

فإنه قدم خبر كأن عليها وهو قوله خط وهذا وأمثاله مما لا يجوز قياس عليه، والأصل في هذا البيت فأصبحت بعد بهجتها قفرا كأن قلما خط رسومها، إلا أنه على تلك الحالة الأولى في الشعر مختل مضطرب.
والمعاظلة في هذا الباب تتفاوت درجتها في القبح، وهذا البيت المشار إليه من أقبحها، لأن معانيه قد تداخلت وركب بعضها بعضا.
ومما جرى هذا المجرى قول الفرزدق:
إلى ملك ما أمه من محارب ** أبوه ولا كانت كليب تصاهره

وهو يريد إلى ملك أبوه ما أمه من محارب، وهذا أقبح من الأول، وأكثر اختلالا.
وكذلك جاء قوله أيضا:
وليست خراسان التي كان خالد ** بها إذ كان سيفا أميرها

وحدي هذا البيت ظريف، وذاك أنه، فيما ذكر، يمدح خالد بن عبد الله القسري، ويهجو أسدا، وكان أسد وليها بعد خالد، وكأنه قال: وليست خراسان بالبلدة التي كان خالد بها سيفا إذ كان أسد أميرها، وعلى هذا التقدير ففي كان الثانية ضمير الشأن والحديث، والجملة بعدها خبر عنها، وقد قدم بعض ما إذ مضافة إليه وهو أسد عليها، وفي تقديم المضاف إليه أو شيء منه على المضاف من القبح ما لا خفاء به، وأيضا فإن أسدا أحد جزأي الجملة المفسرة للضمير، والضمير لا يكون تفسيره إلا من بعده، ولو تقدم تفسيره قبله لما احتاج إلى تفسير، ولما سماه الكوفيون الضمير المجهول.
وعلى هذا النحو ورد قول الفرزدق أيضا:
وما مثله في الناس إلا مملكا ** أبو أمه حي أبوه يقاربه

ومعنى هذا البيت وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملكا أبو أمه أبوه، وعلى هذا المثال المصوغ في الشعر قد جاء مشوها كما تراه.
وقد استعمل الفرزدق من التعاظل كثيرا، كأنه كان يقصد ذلك ويتعمده، لأن مثله لا يجيء إلا متكلفا مقصودا، وإلا فإذا ترك مؤلف الكلام نفسه تجري على سجيتها وطبعها في الاسترسال لم يعرض له شيء من هذا التعقيد، ألا ترى أن المقصود من الكلام معدوم في هذا الضرب المشار إليه، إذ المقصود من الكلام إنما هو الإيضاح والإبانة وإفهام المعنى، فإذا ذهب هذا الوصف المقصود من الكلام ذهب المراد به، ولا فرق عند ذلك بينه وبين غيره من اللغات كالفارسية والرومية وغيرها.
واعلم أن هذا الضرب من الكلام هو ضد الفصاحة، لأن الفصاحة هي الظهور والبيان، وهذا عار عن هذا الوصف.
أما الضرب الثاني الذي يختص بدرجة التقدم في الذكر لاختصاصه بما يوجب له ذلك فإنه مما لا يحصره حد، ولا ينتهي إليه شرح، وقد أشرنا إلى نبذة منه في هذا الكتاب ليستدل بها على أشباهها ونظائرها.
فمن ذلك تقديم السبب على المسبب، كقوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} فإنه إنما قدم العبادة على الاستعانة لأن تقديم القربة والوسيلة قبل طلب الحاجة أنجح لحصول الطلب، وأسرع لوقوع الإجابة ولو قال إياك نستعين وإياك نعبد لكان جائزا إلا أنه لا يسد ذلك المسد، ولا يقع ذلك الموقع، وهذا لا يخفى على المنصف من أرباب هذه الصناعة، وعلى نحو منه جاء قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا} فقدم حياة الأرض وإسقاء الأنعام على إسقاء الناس، وإن كانوا أشرف محلا، لأن حياة الأرض هي سبب لحياة الأنعام والناس، فلما كانت بهذه المثابة جعلت مقدمة في الذكر، ولما كانت الأنعام من أسباب التعيش والحياة للناس قدمها في الذكر على الناس، لأن حياة الناس بحياة أرضهم وأنعامهم، فقدم سقي ما هو سبب نمائهم ومعاشهم على سقيهم.
ومن هذا الضرب تقديم الأكثر على الأقل، كقوله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} وإنما قدم الظالم لنفسه للإيذان بكثرته، وأن معظم الخلق عليه، ثم أتى بعده بالمقتصدين لأنهم قليل بالإضافة إليه، ثم أتى بالسابقين وهو أقل من القليل أعني من المقتصدين فقدم الأكثر، وبعده الأوسط، ثم ذكر الأقل آخرا، ولو عكست القضية المعنى أيضاً واقعا في موقعه، لأنه يكون قد روعي فيه تقديم الأفضل بالأفضل.
ولنوضح لك في هذا وأمثاله طريقا تقتفيه، فنقول اعلم أنه إذا كان الشيئان كل واحد منهما مختصا بصفة فأنت بالخيار في تقديم أيهما شئت في الذكر، كهذه الآية فإن السابق بالخيرات مختص بصفة الفضل، والظالم لنفسه مختص بصفة الكثرة، فقس على هذا ما يأتيك من أشباهه وأمثاله.
ومن هذا الجنس قوله تعالى: {والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع} فإنه إنما قدم الماشي على بطنه لأنه أدل على القدرة من الماشي على رجلين، إذ هو ماش بغير الآلة المخلوقة للمشي، ثم ذكر الماشي على رجلين وقدمه على الماشي على أربع، لأنه أدل على القدرة أيضاً حيث كثرة آلات المشي في الأربع، وهذا من باب تقديم الأعجب فالأعجب.
فإن قيل: قد ورد في القرآن الكريم في مواضع منه ما يخالف هذا الذي ذكرته، كقوله تعالى: {وما نؤخره إلا لأجل معدود يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شقوا ففي النار} فقدم أهل النار في الذكر على أهل الجنة، وهذا مخالف للأصل الذي أصلته في هذا الموضع.
فالجواب عن ذلك أن هذا الذي أشرت إليه في سورة هود وما أشبهه له أسرار تحتاج إلى فضل تأمل وإمعان نظر، حتى تفهم: أما هذا الموضع فإنه لما كان الكلام مسوقا في ذكر التخويف والتحذير، وجاء على عقب قصص الأولين وما فعل الله بهم من التعذيب والتدمير، كان الأليق أن يوصل الكلام بما يناسبه في المعنى، وهو ذكر أهل النار، فمن أجل ذلك قدموا في الذكر على أهل الجنة، وإذا رأيت في القرآن شيئا من هذا القبيل وما يجري مجراه فتأمله وأمعن نظرك فيه حتى يتبين لك مكان الصواب منه.
واعلم أنه إذا كان مطلع الكلام في معنى من المعاني ثم يجيء بعده ذكر شيئين أحدهما أفضل من الآخر وكان المعنى المفضول مناسبا لمطلع الكلام، فأنت بالخيار في تقديم أيهما شئت لأنك إن قدمت الأفضل فهو من التقديم، وإن قدمت المفضول فلأن مطلع الكلام يناسبه، وذكر الشيء مع ما يناسبه أيضاً وارد في موضعه.
فمن ذلك قوله تعالى: {وإنا إذا أذقنا الإنسان رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير} فإنه إنما قدم الإناث على الذكور من تقدمهم عليهن لأنه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى وكفران الإنسان بنسيانه للرحمة السابقة عنده، ثم عقب ذلك بذكر ملكه ومشيئته وذكر قسمة الأولاد، فقدم الإناث لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاء لا ما يشاؤه الإنسان فكان ذكر الإناث اللاتي هن من جملة ما لا يشاؤه الإنسان ولا يختاره أهم، والأهم واجب التقديم، وليلي الجنس الذي كانت العرب تعده بلاء ذكر البلاء، ولما أخر ذكر الذكور، وهم أحقاء بالتقديم، تدارك ذلك بتعريفه إياهم، لأن التعريف تنويه بالذكر، كأنه قال يهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حقه من التقديم والتأخير وعرف أن تقديم الإناث لم يكن لتقدمهن، ولكن لمقتض آخر، فقال: {ذكرانا وإناثا} وهذه دقائق لطيفة قل من ينتبه لها أو يعثر على رموزها.
ومن هذا الباب قوله تعالى: {وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء} فإنه إنما قدم الأرض في الذكر على السماء ومن حقها التأخير، لأنه لما ذكر شهادته على شؤون أهل الأرض وأحوالهم ووصل ذلك بقوله: {وما يعزب} لاءم بينهما، ليلي المعنى المعنى.
فإن قيل: قد جاء تقديم الأرض على السماء في الذكر في مواضع كثيرة من القرآن.
قلنا إذا جاءت مقدمة في الذكر فلا بد لتقديمها من سبب اقتضاه، وإن خفي ذلك السبب وقد يستنبطه بعض العلماء دون بعض.